الخميس، ١٣ ديسمبر ٢٠٠٧

الإسكافى ملكـــــــاً

ثالث المسرحيات التى أحضرها.. ظننت لوهلة فى بداية العرض أنى قد تجاوزت حالة ( الاندماج الشعورى) التى أمر بها عادة فى المسرح مع تكرارا التجربة.. لكن سرعان ما اكنتشفت أنى كنت واهما.. فما إن مرت الدقائق الأولى من العرض حتى كنت أمر بتلك الحالة اللذيذة المؤلمة أحيانا كثيرة..لا أدرى لم أعذب نفسى هذا العذاب..أنا أعلم مسبقا أنى سأمر بهذه الحالة وبخاصة مع مسرحية تدور أحداثها عن مصر.. لكنه ألم المعرفة.
الرواية عن إحدى قصص ألف ليلة وليلة.. تدور حول إسكافى ( صانع أحذية ) فقير لكنه سعيد ومحب للحياة والناس ويساعد من حالهم أفقر منه.. بل وحتى القطط الضالة.. مما يثير غيرة أحد كبار التجار منه ويجعله يتربص به دوما، فكيف يسعد الفقير بينما هو - بكل جاهه وماله- يبحث عن السعادة فلا يجدها؟ .. ويظهر كالعادة - سواء فى الروايات أو فى الواقع - كبير الشرطة الفاسد المرتشى ( التزاوج الأزلى بين السلطة ورأس المال الفاسدين) ولتكتمل المنظومة فهو متزوج من إمرأة تهمة محبة للمال.. تغيرت كثيرا عن المرأة التى أحبها وتزوجها.. ويظل دوما يذكرها بصورتها المعلقة على الحائط والتى تشع منها نظرات السعادة.. يذكرها دوما بجمال روحها الظاهر فى الصورة والضائع فى الواقع.
وتبدأ الحبكة الدرامية بخطة مزدوجة بين الفاسدين يجبران فيها الفقراء على بيع حوانيتهم ليتحكم التاجر الكبير فى السوق ويبنى " مول تجارى " بالمصطلح الحديث.. وطبعا يرفض الاسكافى الفقير فيقومون " بتلفيق " قضية سرقة له " التيمة المعتادة" وهنا يأتى الإنقاذ على يد إحدى القطط الضالة التى طالما عطف عليها.. حيث نكتشف فجأة أنها جنية تطير به إلى عالمها فى قاع البحار لتبدأ القصة الحقيقية.. الوزير الطامع فى الزواج منها يؤلب عليها والدها المتسلط ويستعين بعجائز البحر الحكماء الذين يوافقونه ويحذرون من خطورة هذا " الأنسىّ" وهنا يتحول الأمر إلى تحدى ورهان بين الأب" ملك الجن" والإبنة " الأميرة" ويلقيان بالإسكافى على جزيرة النعاس التى فرض الجن قوانينهم عليها عبر الوزير الإنسى الخبيث الطامع فى الحكم.. مستغلا ضعف الملك الأبله .. وكان الرهان.. هل يستطيع هذا الفرد تغيير المجتمع وتحدى القوانين؟؟ كان هذا هو الرهان واختصارا للاحداث فقد نجح الاسكافى فى ذلك .. وأحب ابنة الملك وهنا تبلغ الأحداث ذروتها حيث يخبر الوزير الخسيس أميرة الجن أن الإسكافى الذى أحبته وفضلته عليه قد هجرها وأحب أميرة الإنس واليوم حفل زفافهما.. قتتوعد إن كان هذا الخبر صادقا أن تهدم المعبد على رأسه.. وقد كان.. فقد أحضرت له زوجته الأولى والتاجر الجشع .. ليظهر المكشوف ويحاكم الإسكافى بتهمة الخداع.. ويدفع ثمن حبه للحياة .ولكنه أثناء تقديمه للمحاكمة يهتف بالشعهب ان الحلم والرغبة دانت دوما فيهم.. وما هو إلا عابر سبيل أسقظ بداخلهم الحلم.. عليهم فقط الآن أن يتمسكوا بها ولا يسمح لأحد أن يسلبهم أحلامهم.

المسرحية تم إخراجها بأسلوب شديد الشبه بإخراج مسرحية (كارمن) لمحمد صبحى فهى عبارة مشاهد بتقاطعة بين قصة الإسكافى ملكا من ألف ليلة وليلة وكواليس الفيلم الذى يتم تمثيله عن هذه الرواية.
لا أدرى كيف أنقد هذه المسرحية .. فنقدى السابق لمسرحية ( كان جدع) عن نجيب سرور تعدى العشر صفحات فى " أجندتى" لأنى نقدت كل ما رأيت وأحسست بالتفصيل.. حتى أتى لم أجد الوقت الكافى لكتابة النقد على الحاسوب وإدراجه فى مدونتى.لذا سأتجاوز هذه المرة كثيرا من التفاصيل وأركز على ما أراه أهم للزائر الكريم.
بداية أوجه التحية للمجهولين خلف الستائر المعلقة
.. مهندس الديكور الرائع.. بحرفيته التصميمية والتنفيذية...وأسلوب السهل الممتنع فى ديكورات المسرحية.. مع التميز متى أتيح لذلك سبيل..وكان علامته الفارقة فى ديكور مملكة الجان فى قاع البحر مع الخلفية المتحركة من الستائر البلاستيكية نصف الشفافة ممثلة الماء.
الموسيقى والأغانى ممتازة فى الكلمات والألحان وتوقيتاتها بالنسبة لسير المسرحية..تمتاز بعدم التكلف والأسلوب المبسط والمباشر فى الكلمات مع قوة التعبير.. ملحوظة واحدة تأخذ على طاقم العمل وهى إرتغ\فاع صوت المؤثرات الصوتية والأغانى لدرجة تؤلم الأذن أحيانا كثيرة.
فرقة الإستعراضات أظنها نفس الفرقة التى كانت مشتركة بمسرحية ( كان جدع ) أو على الأقل هناك كثير من العناصر المشتركة بين الفرقتين ولكن هذه المرة كانت الفرقة متفوقة على نفسها وتخطت ملاحظتى عنها فى المسرحية السابقة.. امتاز أدائها هذه المرة بالتناسق الشديد والتزامن بين الراقصين وتفوق مصمم الإستعراضات فى إبراز حركات متجددة وملائمة للإيقاع.
المخرج كالعادة هو المايسترو..وكانت له السيطرة الرائعة على فريق عمل ضخم من الممثلين وكثير منهم نجوم فى السينما أو المسرح أو التفاز.. بالإضافة إلى عدد ضخم من إصحاب الأدوار الصغيرة.. بخلاف طاقم العمل فى الكواليس والذى لانراه بطبيعة الحال.
الممثلون كما ذكرت منهم نجوم ومن ليس بنجم فى عالم الشهرة فهو نجم فى عالم الآداء ... أغلبهم أتقن دوره وأداه بامتياز ونخص بالذكر بطل المسرحية ماجد الكدوانى.. أداء مميز وتحكم فى تعبيرات الوجه وتغييرها بسرعة فائقة تلائم طبيعة التمثيل على المسرح..
فقط لفت نظرى - كمشاهد عادى غير متخصص - آداء أستاذ يوسف فوزى لدور ملك الجان.. كان رائعا كعادته ولكن - منوجهة نظرى الشخصية مرة أخرى - كان الآداء تقليديا .. أسلوب الصوت العالى الذى يصل للصراخ أحيانا مع قسمات الوجه ذات التعبيرات الحادة أراه شديد الكلاسيكية والتقليدية فى الآداء.. ربما لو جرب - بالإتفاق مع المخرج بالطبع - أسلوب الحكمة والرصانة فى الآداء لأضاف للمسرحية بعدا آخر ولهذا ما يبرره ، فهو يؤدى شخصية ملك الجن المسيطر على الأمور ، شديد الثقة بالنفس، شديد الثقة بقوة شعبه من الجن. أعتقد أن شخصية كهذه يمكن أن تؤدى بتوازن كبير بين الهدوء والثقة والإنفعال فى بعض اللحظات فقط عندما يتطلب المشهد ذلك ، لا أن يسود الإنفعال أغلب - إن لم يكن كل - المشاهد.
ثانى المآخذ على المسرحية والممثلين كان دور " لبّيس" أو مساعد ماجد الكدوانى.. أراه أقل الممثلين فى المسرحية تحكما فى أدواته .. حتى أنه كان يضحك أحيانا قبل أن يضحك الجمهور.. ربما كان طريقة إسناد الدور إليه فى هذه المسرحية شبيهة باحد المشاهد فى خلال أحداث المسرحية الذى يتوسط فيه بطل الفيلم" ماجد الكدوانى" للمخرج الشاب " مكسور الجناح أما سطوة كبار الممثلين " طالباً منه أن يسند أى دور لمساعده من باب المجاملة.
ثالث المآخذ على العمل هو كثرة الإفيهات.. كانت بالفعل مضحكة ولذيذة.. ولكنها من زجهة نظرى أفقدت العمل كثيرا من مفعوله.. كثيرا من تأثيره المفترض فى الجماهير..المفترض بالمسرحية أنها كوميدية بالطبع.. وهو طبع المصريين الدائم فى تغليف الألم بالضحكات حتى نستسيغ طعم الحياة المُرة. ولكنى أرى النص يحتمل الأسلوبين سواءً التراجيديا أو الكوميديا.. وأنا أتحيز إلى التراجيديا فى هذا العمل.. لابد من الألم كى يفيق الشعب.. مللكنا الأفلام الكوميدية التى غزت شاشات السينما طويلا حتى بدأت الإنفراجة بعدد من الأفلام الجادة من عامين لنحصد الآن أفلاما من عينة ( حين ميسرة ) و ( هى فوضى) .. فمتى نرى مسرحا قادرا على مواجهة الشعب بحقيقة واقعه دون مسكنات الكوميديا.
النص شديد الروعة.. قدم لنا المشكلة والحل.. واعتمد فى مجمله على البساطة والأسلوب المباشر فى الحوار.. وجمله المحورية يمكن أن تنتزع من سياق المسرحية لتصبح حكما أو أقوال مأثورة تتردد على الألسنة. لذا كنت أفضل أن يتم تناوله بأسلوب التراجيديا مطعما ببعض الكوميديا من وقت لآخر لتخفيف حدة طرح القضية. ولكنى أرى المسرحية غرقت فى الكوميديا حتى النخاع.
رابع ملاحظاتى على المسرحية كانت عدم إكمال خط درامى مهم عندما بدأ البطل " النجم الأوحد فى الفيلم" فى الإندماج مع النص.. وبدأت صحوته والتفت إلى قيمة ما يقدمه بعد أن كان كل همه منذ بدأ المسرحية هو المال وإنهاء الفيلم ليلحق بأفلام أخرى ليجمع أكبر قدر من المال..خط درامى أراه شديد الأهمية وكان يستحق إبرازه أكثر من ذلك..ولكن المخرج إكتفى باظهار اندماج البطل فى التمثيل وكفه عن ذكر المال.. وهو كناية عن صحوة ضمير البطل.. ولكنى مع التصريح فى هذا الموقف بالذات..فالمسرحية كثيرا ما خاطبت المشاهد صراحةً ودون تلميح ولا كناية.. وأرى هذا الموقف أحق بالتصريح من غيره.. لأن هذا البطل هو أنا وأنت.. هو المواطن الذى يدور فى ساقية ليل نهار ليجنى من المال ما لايكاد يكفل له حياة كريمة.. كان جديرا بالمؤلف والمخرج أن يصرخا بكل منا أن يفيق من حدود عالمه الضيق المحصور فى العمل والمطبخ والسرير ليشعر بأهميته فى صحوة بلد بأكملها.
المسرحية فى مجملها سياسية بحتة.. كلها إسقاط على واقعنا المعاصر.. لن أقول واقع مصر فقط.. فمن زياراتى وقراءاتى أعمل أن هذا حال الكثير من الدول العربية والإفريقية. الدول " النايمة" وأرفض بشدة إطلاق إسم " الدول النامية " عليها فلم أر فيها نموا إلا فى الفساد وعدد السكان فقط.
النص يعقد مقارنة عادلة ودائمة بين الملك شهريار ( المغرور والمعقد والفاسد) وملك الجن ( المغرور أيضا وشديد التعصب لقومه والظالم للإنس الواقعين تحت سيطرته فى جزيرة النعاس)، مقارنة بين مجتمعنا المغلوب على أمره ومجتمع جزيرة النعاس .. الذى يشاركنا أيضا أنه مغلوب على أمره.. مستسلم للأحكام العرفية .. مرعوب من التغيير.. ينتظر الفارس المخلص له من الذل والفقر..
النص يلهمنا الحل على لسان البطل " كان الحلم دوما بداخلكم.. كل ما فعلته كان إيقاظه.. لاتسمحوا لأحد أن يغتال أحلامكم بعد الآن.. ما أنا إلا زائر وأنتم الباقون" لم تكن هذه كلماته بالضبط.. لكن هذا جوهر كلماته وجوهر المسرحية.
تبقى الجملة المؤثورة التى خرجت بها من المسرحية: " الشعب أشباح.. تجرى خلف القوت.. ثم تموت".. هذه وجهة نظر أى حاكم ظالم إلى شعبه
رجاء إلى كل قاطنى القاهرة من مرتادى السينما.. رحمة بأنفسكم قليلا.. وفكروا مرة فى زيارة المسارح الجادة الهادفة حتى لا نخسر فنا حقيقيا نحن فى حاجة إليه.

هناك تعليقان (٢):

zemzo يقول...

الأستاذ/ أحمد علي

أشكرك كثيراً علي حسن تذوقك لعرض مسرحية الأسكافي ملكاً.
انا حازم شبل مصمم الديكور والإضاءة للمسرحية.
وأشكرك مرة ثانية لأعجابك بتصميماتي للعرض.

شكراً

حازم

أحمـــــد علـــــــى يقول...

الشكر للعاملين فى هذه المسرحية الرائعة .. لا يمكنك أن توجه الشكر لمن يأكل طعاما جيداً.. يمكنك فقط أن تشكر الطاه البارع.
حاولت أن أزور مدونتك ولكنك لا تسمح بالدخول إلى :بروفايلك" لذا لم أعرف عنوان مدونتك.. وذهبت لمشاهدة المسرحية مرة أخرى ولكن كان عرضها قد إنتهى.. برجاء إرسال عنوان مدونتك لى بريديا وتمرير هذا النقد إلى باقى طاقم العمل لعلنا نتواصل فأتعلم منهم ويستفيدون هم من وجهة نظر مشاهد غير متخصص.
شكرا لزيارتك يا أستاذ حازم